الحجاج و أنواعه
- مفهوم الحجاج:
تتعارض نظرية الحجاج في اللغة مع كثير من النظريات والتصورات الحجاجية الكلاسيكية التي تعد الحجاج منتميا إلى البلاغة الكلاسيكية ( أرسطو) أو البلاغة الحديثة ( برلمان، أولبريخت تيتيكا، ميشال ميير....) أو منتميا إلى المنطق الطبيعي ( جان بلير غريز...)
إن هذه النظرية التي وضع أسسها اللغوي الفرنسي أزفالد ديكرو ( O.DUCROT) منذ سنة 1973 نظرية لسانية تهتم بالوسائل اللغوية وبإمكانات اللغات الطبيعية التي يتوفر عليها المتكلم، وذلك بقصد توجيه خطابه وجة ما، تمكنه من تحقيق بعض الأهداف الحجاجية، ثم إنها تنطلق من الفكرة الشائعة التي مؤادها: "أننا نتكلم عامة بقصد التأثير".
هذه النظرية تريد أن تبين أن اللغة تحمل بصفة ذاتية وجوهرية(Intrinséque) وظيفة حجاجية، وبعبارة أخرى، هناك مؤشرات عديدة لهذه الوظيفة في بنية الأقوال نفسها.
ولأخذ فكرة واضحة عن مفهوم "الحجاج" Argumentation ينبغي مقارنته بمفهوم البرهنة Démonstration أو الاستدلال المنطقي. فالخطاب الطبيعي ليس خطابا برهانيا بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو لا يقدم براهين وأدلة منطقية، ولا يقوم على مبادئ الاستنتاج المنطقي.فلفظة "الحجاج" لا تعني البرهنة على صدق إثبات ما، أو إظهار الطابع الصحيح(Valide) لاستدلال ما من وجهة نظر منطقية.ويمكن التمثيل لكل من البرهنة والحجاج بالمثالين التاليين:
• كل اللغويين علماء
زيد لغوي
إذن زيد عالم
• انخفض ميزان الحرارة
إذن سينزل المطر
يتعلق الأمر في المثال الأول ببرهنة أو بقياس منطقي (syllogisme)،أما في المثال التاني، فإنه لا يعدو أن يكون حجاجا أو استدلالا طبيعيا غير برهاني .
واستنتاج أن زيدا عالم، في المثال الأول حتمي وضروري لأسباب منطقية، أما استنتاج احتمال نزول المطر في المثال الآخر فهو يقوم على معرفة العالم، وعلى معنى الشطر الأول من الجملة، وهو استنتاج احتمالي .
لقد انبثقت نظرية الحجاج في اللغة من داخل نظرية الأفعال اللغوية التي وضع أسسها أو ستين وسورل. وقد قام ديكرو بتطوير أفكار وآراء أوستين بالخصوص، واقترح،في هذا الإطار،إضافة فعلين لغويين هما فعل الاقتضاء وفعل الحجاج.وبما أن نظرية الفعل اللغوي عند أوستين وسورل قد واجهتها صعوبات عديدة(عدم كفاية التصنيفات المقترحة للأفعال اللغوية مثلا)، فقد قام ديكرو بإعادة تعريف مفهوم التكليم أو الإنجاز(l 'illoutoire)،مع التشبث دائما بفكرة الطابع العرفي (conventionnel)للغة.وهو يعرفه بأنه فعل لغوي موجه إلى إحداث تحويلات ذات طبيعة قانونية، أي مجموعة من الحقوق والواجبات.ففعل الحجاج يفرض على المخاطب نمطا معينا من النتائج باعتباره الاتجاه الوحيد الذي يمكن أن يسير فيه الحوار.والقيمة الحجاجية لقول ما هي نوع من الإلزام تعلق بالطريقة التي ينبغي أن يسلكها الخطاب بخصوص تناميه واستمراره.
ونشير بهذا الخصوص إلى أن فكرة القيمة القانونية -التي تقدم قولا ما باعتباره له سلطة معينة- مرتبطة، بشكل وثيق جدا، بالفرضية التي ترى أن معنى القول هو وصف لقوليته .ولذلك فإن العلاقات الشرعية القانونية (الحقوق والواجبات) محصورة في المجال الخطابي الذي يتموقع فيه المتكلم والمخاطب.
إن الحجاج هو تقديم الحجج والأدلة المؤدية إلى نتيجة معينة، وهو يتمثل في إنجاز تسلسلات استنتاجية داخل الخطاب، وبعبارة أخرى، يتمثل الحجاج في إنجاز متواليات من الأقوال، بعضها هو بمثابة الحجج اللغوية، وبعضها الآخر هو بمثابة النتائج التي تستنتج منها.إن كون اللغة لها وظيفة حجاجية يعني أن التسلسلات الخطابية محددة،لا بواسطة الوقائع(les faits) المعبر عنها داخل الأقوال فقط، ولكنها محددة أيضا وأساسا بواسطة بنية هذه الأقوال نفسها، وبواسطة المواد اللغوية التي تم توظيفها وتشغيلها.
ومن هنا وجب التمييز بين الاستدلال Raisonnement والحجاج Argumentation لأنهما ينتميان إلى نظامين جد مختلفين، نظام ما نسميه عادة بـ"المنطق"،ونظام الخطاب.إن استدلالا ما(القياس الحملي أو الشرطي مثلا) لا يشكل خطابا بالمعنى القوي الذي يعطيه ديكرو لهذا المصطلح.
إن الأقوال التي يتكون منها استدلال ما ،مستقلة بعضها عن بعض،بحيث إن كل قول منها يعبر عن قضية ما، أي يصف حالة ما،أو وضعا ،من أوضاع العالم ،باعتباره وضعا واقعيا أو متخيلا.ولهذا فإن تسلسل الأقوال في الاستدلال ليس مؤسسا على الأقوال نفسها ، ولكنه مؤسس على القضايا المتضمنة فيها،أي على ما تقوله أو تفترضه بشأن العالم.
أما الحجاج فهو مؤسس على بنية الأقوال اللغوية، وعلى تسلسلها واشتغالها داخل الخطاب .
ونوضح هذا بالأمثلة التالية:
• أنا متعب، إذن أنا بحاجة إلى الراحة
• الجو جميل، لنذهب إلى النزهة
• الساعة تشير إلى الثامنة، لنسرع
• عليك أن تجتهد لتنجح
إذا نظرنا في هذه الجمل،فسنجد أنها تتكون من حجج ونتائج،والحجة يتم تقديمها لتؤدي إلى نتيجة معينة.فالتعب،مثلا،في الجملة الأولى،يستدعي الراحة ويقنع النفس أو الغير بضرورتها.فالتعب دليل وحجة على أن الشخص المعني بالأمر بحاجة إلى أن يرتاح ويستريح، ونقول الشيء نفسه عن الأمثلة الأخرى، فجمال الجو يدعو ويدفع إلى التنزه، ويعتمده المتكلم لإقناع مخاطبه بضرورة الخروج إلى النزهة أو بالذهاب إلى شاطئ البحر أو إلى حديقة عمومية للتجول فيها من أجل الترويح عن النفس والاستمتاع بجمال الطبيعة.فالمتكلم يقدم هذا العنصر باعتباره حجة ودليلا لصالح النتيجة المقصودة.
ونشير إلى أن مفاهيم الحجة والنتيجة كانت، في التصور السابق الذي نجده عند ديكرو، وخاصة في كتابة" السلميات الحجاجية" عبارة عن أقوال، أما في التصور الذي نجده في أعماله الأخيرة، فإن هذه المفاهيم أعطيت لها دلالة واسعة ومجردة، فالحجة، حسب هذا التصور الجديد، عبارة عن عنصر دلالي يقدمه المتكلم لصالح عنصر دلالي أخر، والحجة قد ترد في هذا الإطار على شكل قول أو فقرة أو نص، أو قد تكون مشهدا طبيعيا أو سلوكا غير لفظي إلى غير ذلك.
والحجة قد تكون ظاهرة أو مضمرة بحسب السياق، والشيء نفسه بالنسبة إلى النتيجة والرابط الحجاجي الذي يربط بينهما. ويمكن أن نبين هذا على الشكل التالي:
• أنا متعب،إذن أنا بحاجة إلى الراحة
• أنا متعب،أنا بحاجة إلى الراحة
• أنا متعب
• أنا بحاجة إلى الراحة
فإذا قارنا بين هذه الأقوال، فسنجد أنه تم التصريح بالحجة والرابط والنتيجة في المثال الأول، وتم التصريح بالحجة والنتيجة وأضمر الرابط في المثال الثاني.أما المثال الثالث فلم يصرح فيه إلا بالحجة، والنتيجة مضمرة يتم استنتاجها من السياق، ونجد عكس ذلك في المثال الرابع، حيث ذكرت النتيجة وأضمرت الحجة.وتتسم الحجج اللغوية بعدة سمات.نذكر بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر:
I. إنها سياقية: فالعنصر الدلالي الذي يقدمه المتكلم باعتباره يؤدي إلى عنصر دلالي آخر، فإن السياق هو الذي يصيره حجة، وهو الذي يمنحه طبيعته الحجاجية، ثم إن العبارة الواحدة،المتضمنة لقضية واحدة، قد تكون حجة أو نتيجة، أو قد تكون غير ذلك بحسب السياق.
II. إنها نسبية:فلكل حجة قوة حجاجية معينة، فقد يقدم المتكلم حجة ما لصالح نتيجة معينة، ويقدم خصمه حجة مضادة أقوى بكثير منها، وبعبارة أخرى هناك الحجج القوية والحجج الضعيفة والحجج الأوهى والأضعف.
ج- إنها قابلة للإبطال .
وعلى العموم، فإن الحجاج اللغوي نسبي ومرن وتدريجي وسياقي بخلاف البرهان المنطقي والرياضي الذي هو مطلق وحتمي.
والعلاقة التي تربط بين الحجة والنتيجة هي التي تدعي "العلاقة الحجاجية"،وهي تختلف،بشكل جدري عن علاقة الاستلزام أو الاستنتاج المنطقي.